الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد
فضيلة الشيخ العلامة :
صالح بن فوزان بن عبد الله آل فوزان حفظه الله
الشرك الأصغر
الشرك الأصغر ينقص التوحيد ويخل به، وهناك أشياء من الشرك الأصغر حذرنا منها الله ورسوله صيانة للعقيدة وحماية للتوحيد؛ لأنها تنقص التوحيد، وربما تجر إلى الشرك الأكبر.قال الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: "الأنداد: هو الشرك؛ أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي! وتقول: لولا كليبة هذا؛ لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار؛ لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان؛ لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك". رواه ابن أبي حاتم.
فقد بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الأشياء من الشرك، والمراد به الشرك الأصغر، والآية عامة تشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر.
فابن عباس رضي الله عنهما نبه بهذه الأشياء بالأدنى - وهو الشرك الأصغر - على الأعلى - وهو الشرك الأكبر -، ولأن هذه الألفاظ تجري على ألسنة الكثير من الناس إما جهلا أو تساهلا.
ومن هذه الأشياء:
1- الحلف بغير الله عز وجل
وهو شرك؛ كما روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك) . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
وقوله: (فقد كفر أو أشرك) ؛ يحتمل أن يكون هذا شكا من الراوي، ويحتمل أن يكون "أو" بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك، ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما أنه من الشرك الأصغر. وقد كثر من الناس اليوم من يحلف بغير الله؛ كمن يحلف بالأمانة، أو يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو يقول: وحياتي، وحياتك يا فلان... وما أشبه هذه الألفاظ، وقد سمعنا ما ورد في الأحاديب من النهي عن الحلف بغير الله عز وجل، واعتباره كفرا أو شركا؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والذي يجب أن يعظم ويحلف به هو الله عز وجل، والحلف بغيره شرك وجريمة عظمى.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا.
ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك - وهو الحلف بغير الله - أكبر من الكبائر - وإن كان شركا أصغر -.
فيجب على المسلم أن يتنبه لهذا ولا تأخذه العوائد الجاهلية.
قال صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفا؛ فليحلف بالله أو ليصمت) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم) .
إلى غير ذلك من النصوص التي تأمرنا إذا أردنا أن نحلف أن نقتصر على الحلف بالله وحده ولا نحلف بغيره.
ويجب على من حلف له بالله أن يرضى؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالله؛ فليصدق، ومن حلف له بالله؛ فليرض، ومن لم يرض؛ فليس من الله)
2- الشرك في الألفاظ
ومن الشرك الأصغر الشرك في الألفاظ مثل قول: ما شاء الله وشئت!
فقد روى الإمام أحمد والنسائي عن قتيلة: (أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت! وتقولون: والكعبة! فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت).
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال: (أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده) .
فدل الحديثان وما جاء بمعناهما على منع قول: ما شاء الله وشئت! وما شابهه من الألفاظ؛ مثل: لولا الله وأنت، ما لي إلا الله وأنت؛ لأن العطف بالواو يقتضي التسوية بين المتعاطفين، وهذا شرك؛ فالواجب أن يعطف بـ "ثم"، فيقال: ما شاء الله ثم شئت، أو: ثم شاء فلان، لولا الله ثم أنت، أو: ثم فلان، ما لي إلا الله ثم أنت؛ لأن العطف بـ "ثم" يقتضي الترتيب والتعقيب، وأن مشيئة العبد تأتي بعد مشيئة الله تعالى لا مساوية لها؛ كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ؛ فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى؛ فالعبد وإن كانت له مشيئة - خلافا للجبرية -؛ فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا يقدر على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه؛ خلافا للقدرية من المعتزلة وغيرهم، الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله، تعالى الله عما يقولون.
3- الشرك في النيات والمقاصد
ومن الشرك الأصغر الشرك في النيات والمقاصد وهو ما يسمى بالشرك الخفي؛ كالرياء، وهو نوعان:
أ- الرياء:
وهو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدون صاحبها، والفرق بين الرياء وبين السمعة أن الرياء لما يرى من العمل؛ كالصلاة، والسمعة لما يسمع؛ كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك تحدث الإنسان عن أعماله وإخباره بها، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . قال الإمام ابن القيم في معنى الآية: "أي: كما أن الله واحد لا إله سواه؛ فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له؛ فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية؛ فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة..."انتهى.
وقد توعد الله المرائين بالويل، فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} . وأخبر أن الرياء من صفات المنافقين، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} . وعن أبي هريرة مرفوعا؛ قال: قال الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه) . رواه مسلم؛ أي: من قصد بعمله غيري من المخلوقين؛ تركته وشركه. وفي رواية لابن ماجه: "فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك".
قال ابن رجب رحمه الله: "اعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا؛ كحال المنافقين؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} ، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها؛ فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة. وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء: فإن شاركه من أصله؛ فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه. وأما إن كان العمل لله، وطرأ عليه نية الرياء؛ فإن كان خاطرا ثم دفعه؛ فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه؛ فهل يحبط عمله أو لا فيجازى على أصل نيته؛ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره..." انتهى. فتحفظوا على أعمالكم من الشرك أعظم مما تتحفظون على أنفسكم من أعدائكم وأعظم مما تتحفظون على أموالكم من السراق؛ فإن خطر الشرك عظيم.
نسأل الله لنا ولكم السلامة والإخلاص في القول والعمل.
ب- إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
إرادة الإنسان بعمله الدنيا نوع من أنواع الشرك في النية والقصد قد حذر الله منه في كتابه وحذر منه رسوله في سنته، وهو أن يريد الإنسان بالعمل الذي يبتغى به وجه الله طمعا من مطامع الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد ويحبط العمل.
قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ومعنى الآيتين الكريمتين: أن الله سبحانه يخبر أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط؛ فإن الله يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور وبالمال والأهل والولد، وهذا مقيد بالمشيئة؛ كما قال في قوله تعالى في الآية الأخرى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} ، وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار؛ لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم منها، وكان عملهم في الآخرة باطلا لا ثواب له؛ لأنهم لم يريدوها.
قال قتادة: يقول تعالى: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته؛ جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن؛ فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "ذكر عن السلف في معنى الآية أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه..
فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وصلة وإحسان إلى الناس وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار؛ فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني. وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها أنزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث. أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا؛ مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم؛ فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهل أو مكسبهم أو رئاستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد؛ كما هو واقع كثيرا.
النوع الرابع. أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرج عن الإسلام؛ مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، والآيتان تتناولان هذه الأنواع الأربعة؛ لأن لفظهما عام؛ فالأمر خطير يوجب على المسلم الحذر من أن يطلب بعمل الآخرة طمع الدنيا.
وقد جاء في "صحيح البخاري"أن من كان قصده الدنيا يجري وراءها بكل همه أنه يصير عبدا لها:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي؛ رضي، وإن لم يعط؛ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) .
ومعنى "تعس" لغة: سمط، والمراد هنا هلك، وسماه عبدا لهذه الأشياء لكونها هي المقصودة بعمله؛ فكل من توجه بقصده لغير الله؛ فقد جعله شريكا له في عبوديته؛ كما هو حال الأكثر، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة والانتكاسة وإصابته بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده، ولابد أن يجد أثر هذه الدعوات كل من اتصف بهذه الصفات الذميمة فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة، وذكر فيها ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهو قوله: "تعس وانتكس، وإذا شيك؛ فلا انتقش"، وهذا حال من إذا أصابه شر؛ لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس؛ فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط؛ كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} ؛ رضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برئاسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط؛ فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته؛ فما استرق القلب واستعبده فهو عبده...".
إلى أن قال: "وهكذا طالب المال؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان:
الأول. منها ما يحتاج العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك؛ فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته - بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه - من غير أن يستعبده فيكون هلوعا.
الثاني. ومنها ما لا يحتاج إليه العبد؛ فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه به؛ فإذا علق قلبه؛ صار مستعبدا له، وربما صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله. وهذا أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) ، وهذا عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله؛ فإن الله إذا أعطاه إياها؛ رضي، وإن منعه إياها؛ سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله؛ فهذا الذي استكمل الإيمان..."انتهى كلامه رحمه الله.
قلت: ومن عبيد المال اليوم الذين يقدمون على المعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة بدافع حب المادة؛ كالذين يتعاملون بالربا مع البنوك وغيرها، والذين يأخذون المال عن طريق الرشوة والقمار، وعن طريق الغش في المعاملات والفجور في المخاصمات، وهم يعلمون أن هذه مكاسب محرمة، لكن حبهم للمال أعمى بصائرهم، وجعلهم عبيدا لها، فصاروا يطلبونها من أي طريق.
نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين من الشح المطاع والهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
4- مسبة الدهر ونحوه
ومن الأشياء يرتكبها بعض الناس بحكم العادة، وهي مما ينقص التوحيد أيضا ويسيء إلى العقيدة: مسبة الدهر ومسبة الريح وما أشبه ذلك من إسناد الذم إلى المخلوقات فيما ليس لها فيه تصرف، فيكون هذا الذم في الحقيقة موجها إلى الله سبحانه؛ لأنه الخالق المتصرف.
قال الله تعالى عن المشركين: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ؛ فقد كذبوا بالبعث، وقالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} : التي نحن فيها، ليس هناك حياة سواها. {نموت ونحيا} ؛ أي: يموت قوم ويعيش آخرون. وهذا منهم إنكار لوجود الخالق المتصرف، ورد جريان الحوادث إلى الطبيعة، ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ؛ أي: لا يفنينا إلا مرور الليالي والأيام، فنسبوا الإهلاك إلى الدهر على سبيل الذم له، وإنما قالوا هذا القول عن جهل وتخرص لا عن علم وبرهان؛ لأن البرهان يرد هذا القول ويبطله، ولهذا رد الله عليهم بقوله: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ، وكل قول لا ينبني على علم وبرهان؛ فهو قول باطل مردود، والبراهين تدل على أن ما يجري في الكون لابد له من مدبر حكيم قادر، وهو الله سبحانه وتعالى؛ فكل من سب الدهر ونسب إليه شيئا من الحوادث؛ فقد شارك المشركين والدهرية في هذا الوصف الذميم، وإن لم يشاركهم في أصل الاعتقاد.
وفي "الصحيحين"وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار) . وفي رواية: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر) .
فدل الحديث على أن من سب الدهر؛ فقد آذى الله سبحانه؛ لأن السب يتجه إلى مدبر الحوادث والوقائع وخالقها، والدهر إنما هو ظرف ومحل وخلق مدبر ليس له شيء من التدبير، ولهذا قال الله: "وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار".
فقوله سبحانه: "أقلب الليل والنهار": تفسير لقوله: "وأنا الدهر"، وكذا قوله: "فإن الله هو الدهر": معناه أن الله هو المتصرف الذي يصرف الدهر وغيره؛ فالذي يسب الدهر إنما يسب من خلقه، وهو الله تعالى وتقدس.
قال بعض السلف: كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر؛ أي سبه عند النوازل، فكانوا إذا أصابتهم شدة أو بلاء؛ قالوا: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا: يا خيبة الدهر! فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله؛ فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر؛ فإنما سبوا الله عز وجل؛ لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا بهذا الحديث، وقد بين معناه في الحديث بقوله: "أقلب الليل والنهار"، وتقليبه: تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه؛ فالذي يليق بالمسلم تجنب مثل هذه الألفاظ، وإن كان يعتقد أن الله هو المتصرف، لكن في تجنبها ابتعاد عن مشابهة الكفار ولو في الألفاظ، وفي ذلك حفاظ على العقيدة وتأدب مع الله سبحانه".
ومن جنس مسبة الدهر مسبة الريح.
وقد ورد النهي عنها في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الريح؛ فإذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم! إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) .
وذلك لأن الريح إنما تهب بأمر الله وتدبيره؛ لأنه هو الذي أوجدها وأمرها؛ فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه؛ كما تقدم في سب الدهر؛ لأن سب الريح وسب الدهر يرجعان إلى مسبة الخالق الذي دبر هذه الكائنات.
ثم أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرون ما يكرهون مما يأتي مع الريح بأن يتوجهوا إلى خالقها وآمرها ليسألوه من خيرها وخير ما فيها ويستعيذوا من شرها وشر ما فيها؛ فما استجلبت نعمة إلا بطاعة الله وشكره، ولا استدفعت نقمة إلا بالالتجاء إلى الله والاستعاذة به، وأما سب هذه المخلوقات؛ ففيه مفاسد:
منها: أنه سب ما ليس أهلا للسب؛ فإنها مخلوقات مسخرة ومدبرة.
ومنها: أن سب هذه الأشياء متضمن للشرك؛ فإنه إنما سبها لظنه أنها تضر وتنفع من دون الله.
ومنها: أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، وهو الله.
وإذا قال العبد عند هبوب الريح ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا اللهم! إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) ؛ فقد لجأ إلى خالق الريح ومدبرها ومصرفها، وهدا هو التوحيد والاعتقاد السليم الذي يخالف اعتقاد أهل الجاهلية.
وهكذا يكون المسلم دائما وأبدا مع الأحداث؛ يرجعها إلى خالقها، ويسأله من خيرها، وأن يدفع عنه شرها، ولا يلقي باللوم عليها ويسبها ويفسرها بغير تفسيرها الصحيح.
وليعلم أن ما أصابه من هذه الأحداث مما يكره إنما هو بتقدير من الله وتسليط لها عليه بسبب ذنوبه؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} الآية، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ، وقال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} .
فالأمر كله راجع إلى الله؛ فالواجب حمده في الحالتين حالة السراء وحالة الضراء، وحسن الظن به، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة؛ كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
هذا هو التفسير الصحيح لمجريات الأحداث؛ فالمؤمن يعلم أن ما أصابه مما يكره إنما هو بسبب ذنوبه، فيلقي باللوم على نفسه لا على الدهر ولا على الريح، فيتوب إلى الله، والكافر والفاسق أو الجاهل يلقي باللوم على هذه المخلوقات، ولا يحاسب نفسه، ولا يتوب من ذنبه؛ كما قال الشاعر:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ** إذ أنت والد سوء تأكل الولدا
وقال آخر:
قبحا لوجهك يا زمان فإنه ** وجه له في كل قبح برقع
نسأل الله العافية والبصيرة في دينه.
5- قول "لو" في بعض الحالات
ومن الألفاظ التي لا ينبغي التلفظ بها لأنها تخل بالعقيدة، وقد ورد النهي عنها بخصوصها: كلمة "لو" في بعض المقامات.
وذلك عندما يقع الإنسان في مكروه أو تصيبه مصيبة؛ فإنه لا يقول: لو أني فعلت كذا؛ ما حصل علي هذا! أو: لو أني لم أفعل؛ لم يحصل كذا! لما في ذلك من الإشعار بعدم الصبر على ما فات مما لا يمكن استدراكه، ولما يشعر به اللفظ من عدم الإيمان بالقضاء والقدر، ولما في ذلك من إيلام النفس وتسليط الشيطان على الإنسان بالوساوس والهموم.
والواجب بعد نزول المصائب التسليم للقدر، والصبر على ما أصاب الإنسان، مع عمل الأسباب الجالبة للخير والواقية من الشر والمكروه بدون تلوم.
وقد ذم الله الذين قالوا هذه الكلمة عند المصيبة التي حلت بالمسلمين في وقعة أحد، فقال تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} : هذه مقالة قالها بعض المنافقين يوم أحد لما حصل على المسلمين ما حصل من المصيبة، قالوها يعارضون القدر، ويعتبون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين خروجهم إلى العدو، فرد الله عليهم بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ؛ أي: هذا قدر مقدر من الله لابد أن يقع، ولا يمنع منه التحرز في البيوت والتلهف.
وقول "لو" بعد نزول المصيبة لا يفيد إلا التحسر والحزن وإيلام النفس والضعف مع تأثيره على العقيدة من حيث إنه يوحي بعدم التسليم للقدر.
ثم ذكر سبحانه عن هؤلاء المنافقين مقالة أخرى، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} ، وهذه من مقالات المنافقين يوم أحد أيضا، ويروى أن عبد الله بن أبي كان يعارض القدر ويقول: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج؛ ما قتلوا مع من قتل. فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} ؛ أي: إذا كان القعود وعدم الخروج يسلم به الشخص من القتل أو الموت؛ فينبغي أن لا تموتوا، والموت لابد أن يأتي إليكم في أي مكان؛ فادفعوه عن أنفسكم إن كنتم صادقين في دعواكم أن من أطاعكم سلم من القتل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر مقالة ابن أبي هذه؛ قال: "فلما انخزل يوم أحد، وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان -أو كما قال-؛ انخزل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك؛ فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل؛ فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق؛ لماتوا على الإسلام، وهؤلاء لم يكونوا من المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة..."انتهى.
والشاهد منه أن اللهج بكلمة (لو) عند حصول المصائب من سمات المنافقين الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر.
فيجب على المؤمن الابتعاد عن التلفظ بهذه الكلمة عندما تصيبه محنة أو مكروه، وأن يعدل إلى الألفاظ الطيبة التي فيها الرضى بما قدر الله والصبر والاحتساب، وهي الألفاظ التي وجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل لو أني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) ؛ فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وآخرته مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينا بالله؛ ليتم له سببه وينفعه؛ لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، والجمع بين فعل السبب والتوكل على الله توحيد، ثم نهى عن العجز، وهو ترك فعل الأسباب النافعة، وهو ضد الحرص على ما ينفع؛ فإذا حرص على ما ينفعه، وبذل السبب، ثم وقع خلاف ما أراد أو أصابه ما يكره؛ فلا يقل: لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا؛ لأن هذه الكلمة لا تجدي شيئا، وإنما تفتح عمل الشيطان، وتبعث على التأسف ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى، والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، ثم أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللفظ النافع المتضمن للإيمان بالقدر، وهو أن يقول: "قدر الله وما شاء فعل"؛ لأن ما قدره الله لابد أن يكون، والواجب التسليم للمقدور، وما شاء الله فعل؛ لأن أفعاله لا تصدر إلا عن حكمة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والعبد إذا فاته المقدور له حالتان: حالة عجز: وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى (لو)، ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم. والحالة الثانية: النظر إلى المقدور وملاحظته وأنه لو قدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحد.
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبه وحال فواته، ونهاه عن قول (لو)، وأخبره أنها تفتح عمل الشيطان؛ لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر والحزن ولوم القدر، فيأثم بذلك، وذلك من عمل الشيطان، وليس هذا لمجرد لفظ (لو)؛ بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه المنافية لكمال الإيمان الفاتحة لعمل الشيطان.
فإن قيل: الرسول قد قال هذه الكلمة حينما أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ولم يفسخ هو لأنه ساق الهدي.
فالجواب عن ذلك: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي) : خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، بل هو إخبار لأصحابه أنه لو استقبل الإحرام بالحج؛ ما ساق الهدي، ولأحرم بالعمرة، قال ذلك لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة؛ حثا وتطييبا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره؛ فليس هذا من المنهي عنه، بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر. والله أعلم".
فهذا الحديث الذي رواه أبو هريرة لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر وإثبات الكسب والقيام بالعبودية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذا الحديث: "لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع من مقدور".
الصبر ومنزلته في العقيدة
تقدم الكلام في النهي عن قول (لو) عندما يقع الإنسان في مصيبة وأن الواجب عليه الصبر والاحتساب.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعا من كتابه".
وفي الحديث الصحيح: "الصبر ضياء". رواه أحمد ومسلم.
قال عمر رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". رواه البخاري.
وقال علي رضي الله عنه: "إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"، ثم رفع صوته وقال: "ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له".
وقد روى البخاري ومسلم مرفوعا: "ما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر".
والصبر مشتق من صبر إذا حبس ومنع؛ فهو: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب.
وهو ثلاثة أنواع: صبر على فعل ما أمر الله به، وصبر على ترك ما نهى الله عنه، وصبر على ما قدره الله من المصائب.
قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} : قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم". وقال غيره في معنى الآية: أي: من أصابته مصيبة، فعلم أنها بقدر الله، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله؛ هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه. وقال سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ؛ يعني: يسترجع ويقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .
وفي الآية الكريمة دليل على أن الأعمال من الإيمان، وعلى أن الصبر سبب لهداية القلوب، وأن المؤمن يحتاج إلى الصبر في كل المواقف:
يحتاج إليه مع نفسه أمام أوامر الله ونواهيه بإلزام نفسه بالتزامها.
ويحتاج إلى الصبر في مواقف الدعوة إلى الله تعالى على ما يناله في سبيلها من مشقة وأذى؛ قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} إلى قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
ويحتاج إلى الصبر في موقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يلاقيه من أذى الناس؛ قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
المؤمن بحاجة إلى الصبر أمام مواجهته المصائب التي تجري عليه؛ بأن يعلم أنها من عند الله؛ فيرضى، ويسلم، ويحبس نفسه عن الجزع والتسخط الذي قد يظهر على اللسان والجوارح.
وهذا من صميم العقيدة؛ لأن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، وثمرته الصبر على المصائب؛ فمن لم يصبر على المصائب؛ فهذا دليل على فقدان هذا الركن أو ضعفه لديه، ومن ثم سيقف أمام المصائب موقف الجزع والتسخط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر يخل بالعقيدة الإسلامية:
ففي "صحيح مسلم"عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت) .
فهاتان الخصلتان من خصال الكفر؛ لأنهما من أعمال الجاهلية، ولكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق، وفرق بين الكفر المعرف باللام - كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة) - وبين كفر منكرا كما في هذا الحديث.
وفي "الصحيحين": (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) .
وقوله في الحديث: "ودعا بدعوى الجاهلية": قال ابن القيم: "الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض؛ يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي؛ فكل هذا من دعوى الجاهلية..."انتهى.
والله سبحانه يجري المصائب على عباده لحكم عظيمة، منها أنه يكفر بها خطاياهم؛ كما في حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير؛ عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر؛ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة) . رواه الترمذي وحسنه الحاكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المصائب نعمة لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له والإعراض عن الخلق... إلى غير ذلك من المصالح العظيمة، فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق؛ إلا أن يدخل صاحبها في معاص أعظم مما كان قبل ذلك، فيكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه؛ فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع؛ حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه؛ فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة؛ كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة؛ كانت في حقه نعمة دينية؛ فهي بكونها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها، فمن ابتلي فرزق الصبر؛ كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له ثناء ربه عليه؛ قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات؛ فمن قام بالصبر الواجب؛ حصل له لك". انتهى.
ومن الحكم الإلهية في إجراء المصائب ابتلاء العباد عند وقوعها؛ من يصبر ويرضى، ومن يجزع ويسخط؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي؛ فله الرضى، ومن سخط؛ فله السخط) . رواه الترمذي وحسنه.
والرضى: هو أن يسلم العبد أمره إلى الله ويحسن الظن به ويرغب في ثوابه.
والسخط: هو الكراهية للشيء، وعدم الرضى به؛ أي: من سخط على الله فيما دبره؛ فله السخط من الله.
وفي هذا الحديث أن الجزاء من جنس العمل، وفيه إثبات الرضى من الله سبحانه على ما يليق به كسائر صفاته، وفيه بيان الحكمة في إجراء المصائب على العباد، وفيه إثبات القضاء والقدر، وأن المصائب تجري بقضاء الله وقدره، وفيه مشروعية الصبر على المصائب والرجوع إلى الله والاعتماد عليه وحده في كل ملمة ودفع كل مكروه.
وقد أمر الله بالاستعانة بالصبر والصلاة على ما يواجه الإنسان في هذه الحياة من متاعب ومشاق؛ لأن من وراء ذلك الخير والعاقبة الحميدة، وأخبر أنه مع الصابرين بنصره وتأييده؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، مما يدل على أهمية الصبر وحاجة المؤمن إليه، وهو من مقومات العقيدة.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الصبر والاحتساب، وأن يمن علينا بالتوفيق والهداية.
بيان ألفاظ لا يجوز أن تقال في حق الله تعالى تعظيما لشأنه
الله جل وعلا عظيم يجب أن يعظم، وهناك ألفاظ لا يجوز أن تقال في حقه سبحانه تعظيما له، وقد ورد النهي عنها:
فمن هذه الألفاظ: أنه لا يقال: السلام على الله؛ لأن السلام دعاء للمسلم عليه بطلب السلامة له من الشرور، والله سبحانه يطلب منه ذلك ولا يطلب له، ويدعى ولا يدعى له؛ لأنه المغني، له ما في السماوات والأرض، وهو السالم من كل عيب ونقص، ومانح السلامة ومعطيها، وهو السلام، ومنه السلام.
وفي "الصحيح"عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: كنا إذ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام) ؛ أي: إن الله سالم من كل نقص.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "السلام مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار؛ فجهة الإخبارية تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية...".
إلى أن قال: "والمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل؛ أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن معنيين: أحدهما: ذكر الله... والثاني: طلب السلامة، وهو مقصود المسلم".
ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى: اللهم اغفر لي إن شئت. فطلب الحاجة من الله لا يعلق على المشيئة، وإنما يجزم به.
وفي "الصحيح"عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم اللهم! اغفر لي إن شئت اللهم! ارحمني إن شئت ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له) .
ولمسلم: "وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه".
والنهي عن ذلك لأمرين:
الأول. أن الله سبحانه لا مكره له على الفعل، وإنما هو يفعل ما يريد؛ بخلاف العبد؛ فإنه قد يفعل الشيء وهو كاره، ولكن يفعله لخوف أو رجاء من أحد، والله ليس كذلك.
الثاني. أن التعليق على المشيئة يدل على فتور في الطلب وقلة رغبة فيه؛ فإن حصل، وإلا؛ استغنى عنه، وهذا يدل على عدم الافتقار إلى الله. وفي رواية مسلم الأمر بتعظيم الطلب؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه؛ أي: لا يكبر عليه سبحانه ولا يعسره، وليس عنده بعظيم، وإن عظم في نفس المخلوق، وذلك لكمال فضله وجوده وسعة غناه، فهو يعطي العظائم، ولا يعجزه شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى: الإقسام على الله إذا كان على جهة الحجر عليه أن لا يفعل الخير!
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) . رواه مسلم.
والتألي من الألية - بتشديد الياء - وهي اليمين، ومعنى يتألى: يحلف، وقوله: "من ذا الذي": استفهام إنكار.
وهذا الرجل أساء الأدب مع الله، وحكم عليه وقطع أنه لا يغفر لهذا المذنب، فكأنه حكم على الله سبحانه، وهذا من جهله بمقام الربوبية، واغتراره بنفسه وبعمله وإدلاله بذلك، فعومل بنقيض قصده، وغفر لهذا المذنب بسببه، وأحبط عمله بسبب هذه الكلمة السيئة التي قالها، مع أنه كان عابدا.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته.
ففي الحديث: وجوب التأدب مع الله سبحانه في الأقوال والأفعال، وتحريم الإدلال على الله والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين، وتحريم الحلف على الله إذا كان على جهة الحجر عليه أن لا يفعل الخير بعباده، أما إذا كان الحلف على الله على جهة حسن الظن به سبحانه ورجاء الخير منه؛ فهذا جائز؛ كما جاء في الحديث: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
وفي حديث جندب بيان خطر اللسان ووجوب التحفظ منه.
وعن معاذ رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) . رواه الترمذي وصححه.
ومما سبق يتبين أنه يجب التحفظ في الألفاظ والابتعاد عن اللفظ الذي فيه سوء أدب مع الله سبحانه؛ لأن هذا يخل بالعقيدة وينقص التوحيد؛ فلا يقال: السلام على الله؛ لأنه هو السلام سبحانه، ولأن السلام على أحد دعاء له بالسلامه، والله سبحانه يدعى ولا يدعى له. ولا يقال: اللهم اغفر لي وارحمني إن شئت... ونحو ذلك، بل كل دعاء يؤتى به على سبيل الجزم بلا تعليق بالمشيئة؛ لأن الله يفعل ما يشاء ولا مكره له. وأنه لا يقسم على الله أن لا يرحم فلانا أو يغفر لفلان؛ لأن هذا حظر ومنع لرحمة الله، وسوء ظن بالله عز وجل. كما أنه لا يجوز أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان، وإنما يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان؛ لأن العطف بالواو يقتضي المشاركة، ولا أحد يشارك الله سبحانه ويساويه في أمر من الأمور، وأما العطف بـ (ثم)؛ فإنه يقتضي الترتيب والتبعية، فتكون مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله سبحانه وحاصلة بعدها وليست مشاركة لها.
وكل هذا مما يؤكد على المسلم وجوب دراسة العقيدة ومعرفة ما يصححها وما يخل بها حتى يكون على بينة من أمره وحتى لا يقع في المحذور وهو لا يشعر.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
·
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق